الخميس، ديسمبر 01، 2011

من اغتراب الكلمة إلى غربة الشاعر








نهر وحقول مقفرة




من اغتراب الكلمة إلى غربة الشاعر




د। يوسف حطيني


جامعة الإمارات العربية المتحدة




أصدر الدكتور الشاعر محمد سعيد شحاتة ديوانه الشعري الثامن مؤخراً، وقد حمل هذه الديوان عنوان "نهر وحقول مقفرة[1]" بعد أن أصدر على التوالي:"طيور المنافي" و"لأني أحبك" و"مقامات سيّدي أبي العرفان" و"وجع البدايات" و"ليالي الحلاج" و"مرايا الحلاج" و"الفارس يترجّل". وقد جاء هذا الديوان في اثنتي عشرة قصيدة حملت همّ الوطن وهمّ الشاعر في لغة شفيفة قادرة على البوح عن مكنوناته، وموسيقى راقية لا تخفى على ذي أُذن.
منذ جملته الأولى، أو حتى قبلها، يضعنا الشاعر في جوّ قصائده المشحون بمفردات الحزن والغربة والتوحد والوجد والفقد، وما إلى ذلك من مجالات الشعراء الرومانسيين التي يجول فيها، حتى إنّه يستهلّ ديوانه ببيت لإبراهيم الحضرمي، وثلاثة أبيات لإبراهيم اليازجي تدور في هذا الفلك، ولعلنا نعرض هنا بيت الحضرمي الذي يحيل القارئ العربي على تراث لا ينفد من الحزن واللوعة، إذ يقول: (ص4):
تغنّى حمام الأيك صبحاً وغرّدا فهيَّج محزوناً من الشوق مُكْمَدا
يمتح الشاعر الدكتور شحاته من معين اللغة العربية، فيستثمر دلالة كلمات نعرفها من خلال وضعها في سياقٍ جديد، سياقٍ جديد يجاور بين مفردات تُنتج جملةً بِكراً ودلالة بكراً، فتراه يحدثك عن كُوّة الصدر (ص9) وشرفات القصيدة (ص24) وبكارة الحكاية (ص45) وذاكرة الأمنيات (ص12)، وغير ذلك من خلال اتساق صوري كثيف، لا يملك المتلقي أمامه سوى الدهشة. ففي قصيدة "بقايا ورد" تُسلِمُكَ المفردة إلى المفردة والصورةُ إلى أختها، من أجل الإسهام في تقديم الدلالة الكلية للقصيدة التي تخلّد العشق والعشيقة التي يقول الشاعر في حضرتها:
يا التي جئتِ مسكونةً بالسنين
وممهورةً بالحنين
المرايا التي تتبختر في مقلتيها القصيدةُ
صلصالها الغيمُ
والقلبُ ربوتها (ص14).
ولولا خشية التكرار لكان بالإمكان الإشارة إلى عشرات الصور المدهشة المركبة التي تغصّ بها لغة الشاعر، واللافت في هذه الصور أنه يسمو بها عمّا ألفه الشعراء، ليلجأ إلى ما عرف عند بودليير بتراسل الحواس، إذ كثيراً ما يجري مبادلات حسّية بين العناصر المكونة لصورته الشعرية، فيقول في واحد من أنساقه الشعرية البديعة:
للعواصف طعم الحريق
ورائحة الدم (ص23-24)
* * *
ويستطيع قارئ هذا الديوان، والدواوين التي سبقته أيضاً، أن يلمس عند الشاعر اهتماماً كبيراً بإيقاع قصيدته وغنائيتها معتمداً على ما هو غير مألوف من روافع موسيقى شعر التفعيلة، إذ يلتزم التفعيلة التي يضعها أساساً لقصيدته، ويطوّر تفعيلاتها مستفيداً من الزحافات والعلل، منطلقاً في بعض الأحيان من القصيدة إلى تمام البحر العروضي المعروف، ومستثمراً إيقاعات أخرى من مثل إيقاع المفردة وإيقاع التركيب وإيقاع الموضوع، وهو ما يجعل حلّته الصورية القشيبة أغنية موسيقية عذبة لا يملّ القارئ سماعها.
ولعلّنا نشير هنا إلى مقطع من قصيدة "بقايا ورود" التي يزاوج فيها بين تفعيلتين، ثم ينتقل ببراعة من تفعيلة أساس البحر المتقارب إلى تمامه، فيقول:
سلامٌ عليكَ
إذا الليلُ جُنَّ
وغاب على الأُفْقِ لمح المطايا
سلامٌ عليكَ
إذا الكأسُ أنَّ
وتحفظ منه الشفاه بقايا
سلامٌ عليكَ
إذا اللحن غنّى
وطاف البلادَ
وأشجى الرَّعايا (ص21)
ومثل هذا الانتقال نلمسه بوضوح تام في انتقال الشاعر من (متَفاعلن) التي تعتمد عليها قصيدة "الهوادج والبوارج" إلى مقطع راقص يحيلنا على الموسيقى الأندلسية، فيقول (ص39):
في هـدأة الليـلِ والنجم إذ يسري
طيـفٌ بلا ظـلِّ آتٍ من الأسـرِ
يحكي عن الأوطانْ ألقمتُهُ حجـَرا
وكتمتُ أسراري وظننتُـه.. اندثرا
وكثيراً ما يلجأ الشاعر المزاوجة بين القوافي، فنقرأ: (فأنا المُعاهَدُ/ والمُطارَدُ/ والمقيمُ على الطَّوى/ والمستعيد لما انطوى (ص36-37)، ونلمح سعيه لبناء دائرة إيقاعية مغلقة في قصيدة "لملم جراحك" (ص30-34) إذ يجعل جملة البداية هي جملة المنتهى.
وكثيراً ما يختار الشاعر من معجمه الشعري مفردات يكررها في أكثر من مكان، ليجعل من مفردة معينة إيقاعاً من إيقاعات الديوان، على نحو ما نجد في كلمة "صفصافة" التي تشكّل عنوان القصيدة الأولى، وروح الديوان، بما تحيل عليه من الحزن والوحدة والوجع، لذلك يكررها في سياقات متعددة، منها قوله:
"كيفَ صرت حزيناً
كصفصافةٍ؟!" (ص14)
وتقف مفردة "الليل" التي يعشقها الرومانسيون في مفترق كل قصيدة، وتطلّ من رأس كل مقطع، لتؤكد انتماء الشاعر إلى ظلالها، وها وهو ذا يجعل الليل مشنقة في قوله:
ها هو الليلُ
يلبس قبّعة الغرباءِ
تدلّى كحبل من النافذة (ص13).
وليس أكثر دلالة على الوجع من كلمة "الدم" التي تشكّل أيضاً من خلال تكرارها إيقاعاً نصّياً لافتاً، ونافذة يطلّ منها القارئ على آلام الشاعر المبرّحة التي تصبغ حياته بالأرجوان. ولنقرأ السياق التالي، على سبيل المثال:
هل رأيت على عتبات المواني
دماً مستباحاً
وبعضَ الضلوع
تبوحُ بأسرارها للسُّفُنْ
إنها أضلُعي
(...) وهذا الدم المستباح دمي (ص17-18).
ويحاول الشاعر شحاته، إضافة إلى ما سبق، استثمار الإيقاعات التركيبية المختلفة لصياغة موسيقى نصه الشعري، فقد يعتمد في قصيدةٍ شكلاً محدداً من الجملة الاسمية المنفية (انظر ص27)، وقد يعتمد أسلوب الشرط أساساً لبناء قصيدة أخرى (انظر قصيدة بقايا حديث كاملة 49-56) وقد يعتمد على جملة اسمية مركبة، يتقدم فيها خبرها على اسمها، ويكرر ذلك تكراراً لافتاً، كما نجد في قوله:
والليل في مدينتي بعيدة نجومهُ
عميقة جراحهُ
مراوغٌ خيالهُ
وغائر بين الدموع نصلُهُ (ص5)
* * *
غير أن ثمة إيقاعاً لا يقلّ أهمية يتسرّب من بين قصائد هذا الديوان، وهو إيقاع لا علاقة له بالتفعيلة والقافية والمفردة والتركيب، بل بمجاري النفس الإنسانية الشاعرة، وما تُنتجها من موضوعات؛ إذ تحضر في قصائد د. شحاتة موضوعات بذاتها حضوراً مثيراً، ولعلنا نشير على سبيل الخصوص إلى الغربة والحنين، فالشاعر في قصيدة "غربة" غريب غربة قدرية لا يستطيع منها فكاكاً (ص60):
إنّا اغتربنا وعند الغربة احترقت منّا الضلوع وزاد الهمّ والنّصَبُ
ليل الغريب غريبٌ واللظى قدرٌ ولفظه لصروف الدهر ينتسبُ
وهو في حضرة المتنبي في قصيدة "كاهن الشعب" غريب الملامح والقلب والأمنيات، يعاني ما يعانيه أستاذه العبّاسي من بُعد الدار وشطّ المزار، مما ينتج في شعره إيقاعاً لصيقاً بمقام الحنين من قبل فتى "توزّع حلمه.. بين الصبابة والدم المسفوك" نحو الحبيبة والأرض (مصر ـ القدس)، وهذا الحنين تنضح به قصائد الديوان من مبتداها إلى منتهاها، ومنها قوله (ص66):
الكونُ ساجٍ.. والنجـوم تلفّني والسُّحْبُ تعدو في الفضاء وتختفي
أصغي لأصوات الجوى فيشدّني نحو الديـارِ حنينُ قـلبٍ مُدنَفِ
* * *
وثمة ملاحظة لا تُخطئها العين في نصوص الشاعر، في هذا الديوان وغيره، وهي حضور الآخر في نصّه الشعري، إذ يقدّم د. شحاته في قصائده مزيجاً متجانساً من لغته الشعرية وثقافته التي تعتمد على النصوص السابقة، إذ يحضر القرآن الكريم، وسيدنا نوح، وطرفة بن العبد، ومجنون ليلى ومالك بن الريب والمتنبي وعبد الرحيم محمود، ليحمّل هذا الامتزاجات دلالات جديدة، فهو يقول في قصيدة "نهر وحقول مقفرة":
والعساكرُ إن دخلوا قريةً
أفسدوها
وردّوا الخناجر في نحر عشّاقها (ص41)
مستفيداً من قوله تعالى في سورة النمل: " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون" محمّلاً العساكر مثلبتي الفساد والإفساد، ويفيد الشاعر في قصيدة: "الزيارة الأخيرة لضفاف القلب" من صورة الطلل، لا في قصيدة طرفة بن العبد وحدها، بل في الطلليات عموماً، لتستمرَّ حالة الوجد الصوفي، والانكسار العشقي الدونكشوتي الذي يشعر به العاشق في حضرة السطوة التي يمارسها الحبيب المستبدّ حتى في غيابه:
هل لخولةَ لم يزل طللٌ
أم الأطلال ترحل مثل صاحبها
ويبقى القلب ممتشقاً حسام الوهمِ
في وهج الحريق؟! (ص74)
وثمة في القصيدة ذاتها إحالة أخرى لا تقلّ أهمية إلى شاعر ذي تجربة مريرة في التغرب والشوق والإحساس بالفقد: إنه مالك بن الريب المازني صاحب القصيدة الشهيرة في رثاء نفسه. وها هنا يلجأ الشاعر الدكتور شحاته إلى القصيدة ليحملها، بتمام حزنها، على قصيدته، فيضيف حزنها إلى حزنه، وفقدها إلى فقده، من خلال تضمين نصّه الجديد الأبيات القديمة التالية:
يقولون لا تبعد وهـم يدفنونني وأين مـكان البعد إلا مكانيا
غداةَ غدٍ يا لهف نفسي على غدٍ إذا أدلجوا عنّي وأصبحتُ ثاويا
وأصبح مالي من طـريف وتالدٍ لغيري وكان المال بالأمس ماليا
وإذ يقف الشاعر في حضرة المتنبي ليكتب قصيدة "كاهن الشِّعب" فإنه يلتقط ببراعة تأثير ذكرى شعب بوّان في نفس القارئ العربي، محوّلاً قول المتنبي:
ولكنَّ الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان
أمثولةً يرددها في كلّ كلمة من كلمات القصيدة، مستثمراً تجربة المتنبي كلها في الغربة والتغرّب والاغتراب: عن شعره وعن نفسه وعن قومه، فهو مثله، كصالح في ثمودِ، وهو مثله يعيش حالة عدم اليقين في الزمن العربي المفتوح على كل احتمال، لذلك يقف في حضرته مخاطباً إياه:
أيا كاهن الشِّعبِ
هذا الفتى العربيّ
غريب الملامح
والقلبِ
والأغنيات (ص91).
وعلى الرغم من أن المرء يستطيع إذا نقّبَ أن يجد أملاً ما في هذا الديوان الجميل، من خلال إحالات الشاعر على الشرفات والمواني والشرفات، فإن الانطباع العام الذي يتولّد من خلال القراءة هو ذلك الحزن العميم الذي لخّصه الشاعر بقوله دون مواربة:
لا غيومَ تطلُّ بأرؤسها
في الفضاء
ولا لحنَ يرثي لشيخوخة الذاكرهْ
إنها المقبرهْ (ص46).
إنّ من حقّ الشاعر أن يرى، وأن ينقل لنا رؤيته، ولكنني أشفق على قلب القارئ من قراءة هذا الديوان، فهو يتسلل من خلال لغة جميلة وإيقاع نافذ إلى القلب، ليغمره بحزن طاهر لا يغادر الشغاف.
25/ 11/ 2011
[1] د. محمد سعيد شحاتة: نهر وحقول مقفرة، دار البصائر، القاهرة، ط1، 2012.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق